سورة الجن - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجن)


        


{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} أي قل يا محمد لأمتك: أوحى الله إلي على لسان جبريل أَنَّهُ اسْتَمَعَ إلي نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرأ ابن أبي عبلة: {أحى} على الأصل، يقال: أوحى إليه ووحى، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة و{إعاء أخيه} ونحوه.
الثانية: واختلف هل رآهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم، لقوله تعالى: {اسْتَمَعَ}، وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29].
وفي صحيح مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قول الجن لقومهم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال: لما رأوه يصلى وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال: تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم: {لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19]. قال: هذا حديث حسن صحيح، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفية دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا. وقيل لهم شياطين كما قال: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله.
وفي الترمذي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيها، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الامر إلا من أمر قد حدث في الأرض!
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما يصلي بين جبلين- أراه قال بمكة- فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين.
وفي رواية السدي: أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال: ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن، قيل: كانوا سبعة.
وقيل: تسعة منهم زوبعة.
وروى عاصم عن زر قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الثمالي: أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وأقواهم شوكة وهم عامة جنود إبليس.
وروى أيضا عاصم عن زر: أنهم كانوا سبعة نفر، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين.
وحكى جويبر عن الضحاك: أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق.
وقيل: إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقد مضى بيان هذا في سورة الأحقاف. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وقد مضى في سورة الأحقاف التعريف باسم النفر من الجن، فلا معنى لاعادة ذلك.
وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت، روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجئ من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم الجن» قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس، لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقد قيل: إن الجن أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. قال البيهقي: الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي: والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم. قال: وقد روى من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ، وقد مضى هذا المعنى في سورة الأحقاف والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال: لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إلي قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر».
قال عكرمة: وكانوا اثنى عشر ألفا من جزيرة الموصل.
وفي رواية: «انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط وكان وجوههم المكاكي، فقالوا: ما أنت؟ قال: أنا نبي الله قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: هذه الشجرة فقال: يا شجرة فجاءت تجر عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: على ماذا تشهدين قالت: أشهد أنك رسول الله فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة، لها قعاقع حتى عادت كما كانت». ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال: هل من وضوء قال: لا، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال: هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه. قد الثالثة: قد مضى الكلام في الماء في سورة الحجر وما يستنجى به في سورة براءة فلا معنى للإعادة.
الرابعة: واختلف أهل العلم، في أصل الجن، فروى إسماعيل عن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والانس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما- وهو قول الحسن يدخلونها.
الثاني- وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة الرحمن عند قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56] بيان أنهم يدخلونها.
الخامسة: قال البيهقي في روايته: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: لكم كل عظم دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات، ففي الموطأ: أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنصاف النهار أن يرجع إلى أهله... الحديث، وفيه: فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث.
وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر». وقال: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم» وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة، لقوله في الصحيح: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا». وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها، لأنه لم يعلل بحرمة المدينة، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها، وإنما علل بالإسلام، وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقى: «وكانوا من جن الجزيرة» وهذا بين يعضده قوله: «ونهى عن عوامر البيوت» وهذا عام. وقد مضى في سورة البقرة القول في هذا فلا معنى للإعادة.
قوله تعالى: {فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} أي في فصاحة كلامه.
وقيل: عجبا في بلاغة مواعظه.
وقيل: عجبا في عظم بركته.
وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله.
وقيل: يعنون عظيما. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي إلى مراشد الأمور.
وقيل: إلى معرفة الله تعالى، ويَهْدِي في موضع الصفة أي هاديا. فَآمَنَّا بِهِ أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه، لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رمى الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر، لأنه المتفرد بالربوبية.
وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى: {اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} أي استمعوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط، قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرأ عيسى الثقفي يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ بفتح الراء والشين. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمى ينصبون أن في جميع السورة في اثنى عشر موضعا، وهو: {أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا}، {وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ}، {وَأَنَّا ظَنَنَّا}، {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ}، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا}، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ}، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ}، {وَأَنَّا لا نَدْرِي}، {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ}، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ}، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى}، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} عطفا على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ}، وأَنَّهُ اسْتَمَعَ لا يجوز فيه إلا الفتح، لأنها في موضع اسم فاعل أُوحِيَ فما بعده معطوف عليه.
وقيل: هو محمول على الهاء في فَآمَنَّا بِهِ، أي وب- أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع أن.
وقيل: المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا لأنه كله من كلام الجن. وأما أبو جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع، وهي قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} {وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ} {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ} قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي، لأنه من كلام الجن. وأما قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19]. فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، وأَنْ قَدْ أَبْلَغُوا. وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول، نحو قوله تعالى: {فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا وقال إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي} [الجن: 20] {وقُلْ إِنْ أَدْرِي} [الجن: 25] {وقُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ} [الجن: 21]. وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء، نحو قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] و{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [الجن: 27]. لأنه موضع ابتداء.
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا، أي عظم وجل. فمعنى: جَدُّ رَبِّنا أي عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا: ذكره.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ، وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.
وقال ابن عباس: قدرته. الضحاك: فعله.
وقال القرظي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه.
وقال أبو عبيدة والأخفش: ملكه وسلطانه.
وقال السدي: أمره.
وقال سعيد بن جبير: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي تعالى ربنا.
وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب، ويكون هذا من قول الجن.
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به.
وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى، إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة: {جد} بكسر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب جدا ربنا، وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضا {جد} بالتنوين {ربنا} بالرفع على أنه مرفوع، ب- تَعالى، و{جدا} منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا {جد} بالتنوين والرفع {ربنا} بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا، فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستيناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.


{وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)}
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} الهاء في أَنَّهُ للأمر أو الحديث، وفي كانَ اسمها، وما بعدها الخبر. ويجوز أن تكون كانَ زائدة. والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: المشركون من الجن: قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الانس. والشطط والاشتطاط: الغلو في الكفر.
وقال أبو مالك: هو الجور. الكلبي: هو الكذب. وأصله البعد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق، قال الشاعر:
بأية حال حكموا فيك فاشتطوا *** وما ذاك إلا حيث يممك الوخط
قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} أي حسبنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق. وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق أَنْ لَنْ تَقُولَ.
وقيل: انقطع الاخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ} فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} [الجن: 1]، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى. والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما. قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، أنا جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً} أي زاد الجن الانس رَهَقاً أي خطيئة وإثما، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرهق: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27] وقال الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها *** هل يشتفى وامق ما لم يصب رهقا
يعني إثما. وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها.
وقال مجاهد أيضا: فَزادُوهُمْ أي إن الانس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الانس والجن.
وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الانس بهذا فرقا وخوفا من الجن.
وقال سعيد بن جبير: كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك.
وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن، فالمعنى: وأنه كان رجال من الانس يعوذون من شر الجن برجال من الانس، وكان الرجل من الانس يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن. قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} هذا من قول الله تعالى للانس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. الكلبي: المعنى: ظنت الجن كما ظنت الانس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك.


{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)}
قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ} هذا من قول الجن، أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا فَوَجَدْناها قد مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي حفظة، يعني الملائكة. والحرس: جمع حارس وَشُهُباً جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة الحجر والصافات. ووجد يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين، فالأول الهاء والألف، ومُلِئَتْ في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون مُلِئَتْ في موضع الحال على إضمار قد. وحَرَساً نصب على المفعول الثاني ب- مُلِئَتْ. وشَدِيداً من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا.
ووحد الشديد على لفظ الحرس، وهو كما يقال: السلف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السلف أسلاف وجمع الحرس أحراس، قال:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ***
ويجوز أن يكون حَرَساً مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة. قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} مِنْها أي من السماء، ومَقاعِدَ: مواضع يقعد في مثلها لاستماع الاخبار من السماء، يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً يعني بالشهاب: الكوكب المحرق، وقد تقدم بيان ذلك. ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو آية من آياته. واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال الكلبي وقال قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة والشهب. قلت: ورواه عطية العوفي عن ابن عباس، ذكره البيهقي.
وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعت الشياطين، ورموا بالشهب.
وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت عن الدنو من السماء.
وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رميت بالشهب. ونحوه عن أبي بن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرمى بها.
وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنذارا بحاله، وهو معنى قوله تعالى: {مُلِئَتْ} أي زيد في حرسها، وقال أوس بن حجر وهو جاهلي:
فانقض كالدري يتبعه *** نقع يثور تخاله طنبا
وهذا قول الأكثرين. وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال: كل شعر روي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح، لقوله تعالى: {فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً}. وهذا إخبار عن الجن، أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم، ولما روى عن ابن عباس قال: بينما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه». وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث.
وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس.
وفي آخره قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة: كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث، وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعت من ذلك أصلا. وقد تقدم بيان هذا في سورة الصافات عند قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} [الصافات: 9- 8] قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 35] ولولا هذا لما تحقق التكليف. والرصد: قيل من الملائكة، أي ورصدا من الملائكة. والرصد: الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس، والواحد: راصد.
وقيل: الرصد هو الشهاب، أي شهابا قد أرصد له، ليرجم به، فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض. قوله تعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي خيرا. قال ابن زيد. قال إبليس لا ندري: هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا.
وقيل: هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والايمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي.
وقيل: لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟

1 | 2 | 3 | 4